صوت مهاجر على جناح النغم السبت, 11 جويلية/يوليو 2009 19:19 الحبيب الأمين
في مطلع السبعينات من القرن العشرين ولد في ليبيا نمط غنائي جديد وبكلمات جديدة ..وبموسيقى مدمجة بين المحلي والعالمي إذا جاز التعبير ،ليست كتلك الموجة الأولى القصيرة المدى: " الفرانكوا آراب FrancoArab " التي عرفت بمصر وانقطع نسلها. ولكن بتمازج مع الموسيقى كلغة عالمية ناطقة بمفردات العصر المتسارعة .. أنها موسيقى عصرية لها آلاتها العربية والغربية المختارة .. الألحان كانت مفتوحة على كل الموسيقات من الريغى الكاريبي إلى المغاربي العربي بحداثته وفولكلوره وحتى بتوليفة من الإيقاعات تصاعدت من الدفوف والطبلات العربية إلى غيرها الإفريقية والغربية.أنها موسيقى متحررة وحرة .... كما أرادها أولئك الشباب .. رغم تحفظات المحافظين ونبذ النمطين وتعثر هذا الطراز في المسير والانتشار لقلة الدعم والفرص ,. إلا أن جهود المبادرين وتشبثهم بأدواتهم وذائقتهم صدرتهم في أخر المطاف كأصوات مسموعة وأسماء يصعب تجاوزها أو وصمها بالاغتراب لمجرد أنها استعملت أدوات موسيقية غربية وكأن من يتبنى هذا الرأي لا ينظر ولو بعجالة لما يرتدي جسده الأصيل من ملابس وبأي أجهزة يستمتع بموسيقاه ومن صنعها.. هنا تبدو السجالات في غير مقامها كما لا توفر المقارنة منبر خطابات لقضايا كبرى خسرناها بأسلحتها الحقيقية .. انه القفز على حقيقة الموسيقى كمكون رئيس للوجدان الإنساني وثابت أصيل بكل ثقافات وحضارات العالم. الموسيقى عندما تتمظهر كنوع أو طراز ( عربية , غربية , شرقية , كلاسيكية Classical, فلامنكو Flamenco, بوب Pop, بلوز Blues , جاز Jazz , روك Rock, ريغى Reggae, .. الخ ) تتجاوز كونها نقرات ونغمات وكلمات وجمل موسيقية والحان ,,,هنا نراها تعبر عن حالة مزاجية وذهنية وتترجم انفعالات وتفاعلات وعواطف وهموم وشجون إنسان المرحلة والمكان .. طبعا يحدث هذا بعد أن ينجح فنانيها في توظيف أدواتهم وشق دربهم كتيار موسيقى جديد وعذب وإن كان البعض سيوليه اهتمامه بأذان صماء لا تنهل من فيضهم إلا الصمت ..فمن أحمد فكرون ذو البصمة الفريدة بتجربته الرائدة وصداه المؤثر تشرب جيله مسموعات جديدة بنكهة تعبير غنائي وموسيقي يمكن وصفه بالإضافة للمثال التقليدي الذي قولب الأغنية الليبية الحديثة ما بعد تأسيس وسائط الإعلام الجديدة في ليبيا ( الإذاعتين المرئية والمسموعة )...وعلى الرغم من أن بدايات فكرون كانت محلية ونتاج اطلاعاته وجهوده ومواكبته للأغنية العالمية , إلا أن الإطار المحلي لم يوفر لأفكاره الكمال المطلوب ولا لطموحه اللا محدود ركح استماع , فغادر البلاد شبه مغمور وليطلق لشهرته العنان بأرض المهاجر , فاطل من هناك على أرض الوطن وتعاطى وتعامل مع كتابه وملحنيه معززا بهما هوية أدائه الليبي وناشرا لها - ما استطاع - بأوربا وبالساحة العربية من مراكش إلى بيروت بعد أن وطد لأغنيته ملامح معروفة وصفات مميزة فصارت تنسب إليه وينسب إليها ...ثم توالت أغنية الجيل الشبابية بأصوات وفرق أخرى من المزداوية وناصر المزدواي والفرقة الحرة وحميد الشاعري وأسماء أخرى وفرق أخرى .. لكن تبقى حقيقة أن أغنية الفرانكو اراب العربية حاليا لا يمكنها إلا الاعتراف بتأسيسها على يد عازفي الأوتار والحناجر الليبية الرائدة .. وان كانت الأغنية الليبية في مرحلة انحسار وشتات ........باسط الحاسي اسم لفنان ليبي يقيم بالمهجر منذ مطلع التسعينات ..وتجربة جديدة للتحليق بالنغم عن بعد دون أن تنسى العودة لعش الذكريات ودفء الماضي... عندما كان باسط ببنغازي شهد تلك الفترة السبعينية الذهبية واحتفى بها وتفتحت فيها أصابعه على أوتار القيثارات ( وهي بالمناسبة آلة شرقية قديمة تغربت وردت إلينا ) . كان يعزفها وسط رفاقه ببنغازي الذين كانوا يحاولون ترويضها لاستقبال إحساسات وجدانهم المحلي بصوغ الجمل والإيقاعات المحلية وطرحها في براح موسيقى يعبر عنهم كجيل يرنو لحداثة مغايرة لا تستهجن السائد ولكنها تقدم مذاقاتها اللحنية وأشجانها بشجو مموسق يطربهم ويسعون لمقاربته مع فضاء ضاق بأصواتهم..عند استماعي لألبومات باسط وخاصة الأخيرة وتحديدا البوم " من قال ؟ " اقدر انه رغم وجود الآلات الغربية إلا أن اللون الليبي متجلي والجملة المحلية حاضرة والإحساس بالصوت يكاد أن يعزل عنك إحساس أخر لا يستولي عليك رغم قوته ,لتجد نفسك أمام مقولة " أن الموسيقى عالمية ولكن الكلمات والصوت الإنساني هو من يمنحها هويتها المحلية " .. وهذا ما وفق فيه باسط في أكثر من أغنية.. ثمة ملاحظة أخرى تميز باسط عدا الصوت المفعم بالليبية الفاقعة رغم وجوده بالمهجر , وهي توافقه الصوتي وتوفيقه أيضا عندما يؤدي الأغنية الهادئة الإيقاع والرومانسية الانطباع فهو يواكب النغم بالإحساس وينغم الصوت بالموسيقى ويعلو بوضوح على خلفيته الموسيقى ليفرض بجودة عالية كلماته المؤثرة على المستمع .. فهو لا يضيع وسط ضجيج الإيقاع ولا يغيب عميقا وراء زحمة الآلات وتصاعد أصواتها... هنا هو يوفق ويستخدم بذكاء درجات صوته وطبقاته بما لا يخدش اللحن أو يوشوش عليه..اذكر أنني تحدثت عديد المرات مع الصديق زياد العيساوي عن أعمال باسط الحاسي عقب إرساله لألبومه الغنائي " من قال " وتناولنا بشي من التحليل أدائه وموسيقاه , ولعلنا توافقنا على الكثير من تقييماتنا حيالها. كنت مهتما بتحليل أدائه باختيار أغنية واحدة كأنموذج قياسي .. فكانت "الليل هون "الليل هون .. أجدها واحدة من أجمل باقة أغنياته ومعبرة بقوة عن ملكته وخامة صوته وروحه الإبداعية وهو بلا زيادة أو نقصان يقدم موسيقاه وصوته بشكل مميز يفرد له مكانة لائقة لا نكاد نراها إلا في أعمال أحمد فكرون...انه يعيدنا إلى زمن تراجع بعيدا عنا .. نتمنى فيه عودة تلك الأنغام علها تعيدنا إلى حالة اتزان أو تطرح بدائل لانطلاقة فنية جديدة ... ونحن نعرف حقيقة الوضع الغنائي الليبي الراهن وما يعانيه من كساد وتهريج وتسطيح وتقليد وحتى اختطاف وقرصنة ... وربما قريبا أن توفرت السانحة الطيبة لنرى الحاسي وفكرون في حفلة واحدة ولو في دويتو يليق بكليهما ..الليل هون قدمها باسط بنفس هادئة وبإيقاع جميل .. نجح في الإمساك بجمله وتوظيف إحساسه وتصدير مكنونه ,, من الشوق والحنين والغربة .. ومعاندة النسيان واسترجاع الصور الماضوية ..ليعاتب الليل بقلبه وعقله ..تبدو الأغنية كحوار باطني كشجو هامس لما يختلج بالنفس مع البعيد الغائب والقديم الذي لا وصال معه إلا بالأمنيات الشائقة.. قدمت الموسيقى نقاط إضافية لصالح الأداء ونجح اللحن في استلهام الكلمات ليكتب نوتته على مقاسها .. رغم أن باسط يعمل مع فريق موسيقي من جنسيات أخرى فنانين أتراك وألمان , إلا انه كان وكانوا عند قمة الأداء الجماعي الرائع وبحضور مكثف للإحساس بالجملة وروحية النص ... فكانت بذلك " الليل هون " كافية لتقدم لنا باسط الحاسي كفنان مهاجر يكتنفه الحنين لصباه , لمدينته ووطنه .. نتمنى له كفنان وكصديق المزيد من التوفيق والحضور على قنوات الراديو و شاشات التلفاز الليبي...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق